كاتب بحريني:
مع استمرار تداعيات مشروع التطبيع بين حكومتي الإمارات والبحرين مع الاحتلال الإسرائيلي، تتعمق التساؤلات حول دوافعهما للقفز على الإرادة الشعبية في العالمين العربي والإسلامي، واحتمالات توسع ردود الفعل داخل البلدين. فبرغم القمع الذي يعيشه سكان الإمارات والبحرين، فقد ظهرت بوادر التململ والرفض في الاجواء الشعبية.
مع استمرار تداعيات مشروع التطبيع بين حكومتي الإمارات والبحرين مع الاحتلال الإسرائيلي، تتعمق التساؤلات حول دوافعهما للقفز على الإرادة الشعبية في العالمين العربي والإسلامي، واحتمالات توسع ردود الفعل داخل البلدين. فبرغم القمع الذي يعيشه سكان الإمارات والبحرين، فقد ظهرت بوادر التململ والرفض في الاجواء الشعبية.
أصدرت لجنة مكافحة التطبيع الإماراتية بيانات شجبت فيها مغامرة ولي عهد ابوظبي الذي يعتبر المسؤول الاول عن السياسة الخارجية، كما عبر بعض الإماراتيين عن سخطه عبر وسائل التواصل الاجتماعي. اما البحرين فقد شهدت هبة شعبية قوية ضد الخطوة الحكومية واعتبرتها مبررا لمعارضة الحكومة والمطالبة بتغييرها. وقد تميز الحراك الشعبي البحراني بقوته وتعدد الاطياف المشاركة فيه وتنوع اساليبه. فلم تتوقف الاحتجاجات والمظاهرات والاعتصامات الرافضة للتطبيع، ولم تهدأ وسائل التواصل الاجتماعي التي اكتظت بمواقف التنديد والرفض. وتعددت المقالات والتحليلات والمقابلات حول ذلك الموضوع. ولا يستطيع من يراقب المشهد البحراني الا استنتاج حقيقة واحدة: ان هناك شعبا رافضا بشكل مطلق سياسات حكومته، وراغبا في الاطاحة بها لقيامها بما يعتبره الشعب «خيانة». وزاد من مشاعر الغضب اصرار الحكم على الاستفزاز باستضافة الإسرائيليين في مجالات الرياض والفن والإعلام بشكل سريع. وفي ذلك من الاستفزاز ما لا يحتمله الكثيرون.
ما الذي دفع حكومتي الإمارات والبحرين للقيام بالخطوة التي أدت لنتائج كارثية لمن قام بها سابقا. فما يزال مشهد عملية الاغتيال التي تعرض لها الرئيس المصري الاسبق، انور السادات ماثلة للعيان. فقد دفع ثمن تحديه ثوابت الأمة ومشاعرها بزيارة القدس وتوقيع اتفاقات كامب ديفيد. يومها برر السادات تلك الخطوة التي اعتبرتها الجماهير العربية «خيانة» بانها ضرورة لانهاء حالة التوتر مع الكيان الإسرائيلي لكي تتوفر فرصة بناء مصر واقتصادها. وبعد أكثر من اربعين عاما لم يتغير وضع مصر نحو الافضل. بل حدث عكس ذلك تماما. فقد تراجع دور مصر السياسي ونفوذها في العالم العربي وعلى الصعيد الدولي، بالإضافة لتراجع اقتصادها وتردي اوضاعها السياسية. فاذا كان السادات قد استهل حقبة حكمه باطلاق سراح الآلاف من السجناء الذين اعتقلوا خلال فترة حكم سلفه، جمال عبد الناصر، فان الحاكم العسكري الحالي قد فتح السجون على مصاريعها فاصبحت تضم اكثر من 30 الف معتقل سياسي، يمثل الإخوان المسلمون نسبة كبيرة منهم. اما مشروع التطبيع الذي كان الأمريكيون والإسرائيليون يأملون بحدوثه. وعلى مدى العقود الأربعة الماضية لم تؤد البوابة المصرية الى طريق معبّد للكيان الإسرائيلي. ومع أن كلا من الأردن والمغرب قد اتخذتا خطوة مماثلة نجم عنها «اتفاقات سلام» مثل وادي عربة، الا أن التطبيع لم يحدث لأن الخطوات التي تمت كانت بضغوط أمريكية كبيرة. لذلك تغيرت السياسة الأمريكية في السنوات الاخيرة، واصبحت تركز على التمهيد لاقامة علاقات رسمية مع بعض الحكومات بفتح جسور سرية واتصالات غير معلنة بموازاة تمييع سياسة المقاطعة من العربية لكسر القطيعة النفسية بين العرب و«إسرائيل». وسجلت زيارة وزير البيئة الإسرائيلي، يوسي بيلين، الى البحرين في 1994 واحدة من أولى الخطوات على طريق التطبيع الذي أعلن عنه مؤخرا.
ويبقى السؤال: ما الذي دفع حكومتي الإمارات والبحرين لتوقيع «اتفاق سلام» مع الكيان الإسرائيلي الاسبوع الماضي؟ فالحكومتان ليستا من «دول المواجهة» ولم تدخلا في نزاع مسلح مع المحتلين، وليس هناك ضرورة تستدعي «تبريد نقاط التماس» التي لا وجود لها. وهذا السؤال لن يجد الاجابات الوافية نظرا لحساسية بعض الاسباب. ويمكن رصد أربعة اسباب لاقدام ابوظبي والمنامة على خطوة التطبيع:
الأول: الرغبة الأمريكية لتحقيق اختراق دبلوماسي في الشرق الاوسط بهدف تسويق دونالد ترامب وتحسين فرص اعادة انتخابه للرئاسة الأمريكية قبل نهاية العام. هذا الرئيس لم تشهد أمريكا في تاريخها المعاصر أسوأ منه، حتى اصبح موضع تبرم ذوي الذوق الانساني بدون استثناء. فبالاضافة لتطرفه اليميني الذي يجعله في خانة «العنصريين» تبنى سياسات تؤكد ذلك عندما أصدر امرا بمنع مواطنين من سبع دول اسلامية من دخول أمريكا. كما انه اصبح رمزا للكراهية وتحدي الذوق العام وعدم قدرته على استيعاب التطورات العلمية وخطر الوباء الذي عصف بأمريكا وحصد أرواح الآلاف من ابنائها. هذه الرغبة الأمريكية تجسدت كذلك في قرار ترامب نقل سفارة بلده الى مدينة القدس في تحد واضح للقرارات الدولية التي تعتبر المدينة «محتلة».
الثاني: على مدى أربعة عقود تأسست السياسة الغربية تجاه المنطقة على اعمدة عديدة اهمها شيطنة إيران والدفع لاحتضان «إسرائيل» والتطبيع معها. هذه السياسة كانت واضحة تماما ولكن تم ترويجها باساليب هادئة، استخدمت فيها الاموال النفطية على نطاق واسع.
الثالث: ان ادارة ترامب استهدفت ظاهرة «الإسلام السياسي» بشكل ممنهج وثابت. فالمنتمون لهذا الاتجاه من دول وحركات اسلامية حملت لواء رفض الاحتلال الإسرائيلي والاعتراف بكيانه. وتوافقت رغبات الادارة الأمريكية مع توجس الدول الثلاث من تبعات «الإسلام السياسي» فيما لو فسح له المجال للاستمرار بالاضافة للرغبة الإسرائيلية لاحتواء تلك الظاهرة التي لو فسح المجال لها ضمن مناخ من الحرية، لربما اجتاحت صناديق الاقتراع في اية انتخابات ديمقراطية حرة في تلك البلدان.
الرابع: اكدت العقود السبعة الاخيرة من تاريخ المنطقة معارضة اي توجه سياسي في المنطقة يطالب بتحرير فلسطين ويعارض التعامل مع «إسرائيل». ولذلك قمعت كافة الدعوات لاقامة منظومات سياسية ديمقراطية يصعد للحكم من خلالها هؤلاء. ويمكن اعتبار الحريات العامة والديمقراطية من بين ضحايا الاحتلال الإسرائيلي. فالمشاعر الشعبية العامة في كافة انحاء العالم العربي ترفض التخلي عن قضية فلسطين، ولو وجدت مسارات سياسية تحول تلك المشاعر الى سياسات وطنية ثابتة لما اقدم احد من الحكام على خطوات من هذا النوع، خصوصا مع استمرار العدوان الإسرائيلي على الدول العربية المجاورة والجهات الفلسطينية عامة. ويعتقد حكام الإمارات والبحرين ان بناء الجسور مع «إسرائيل» يحميهم من الضغوط الخارجية للقبول بالتحول الديمقراطي.
الخامس: ان هؤلاء الحكام يشعرون بالخوف المستمر على مواقعهم السلطوية من معارضيهم. وفي السنوات العشر الاخيرة استهدفت حكومة الإمارات معارضيها بشراسة، واعتقلت العشرات منهم وما يزال اغلبهم معتقلا. وتطالب المنظمات الحقوقية الدولية باطلاق سراح الناشط الحقوقي احمد منصور ومحمد الركن وسواهما. ومن بين اسباب العدوان السعودي ـ الإماراتي على اليمن المتواصل منذ اكثر من خمسة اعوام الخشية من وجود يمن ديمقراطي حر غير خاضع للاملاءات السعودية. ولذللك ترى الإمارات في التطبيع مع «إسرائيل» وسيلة لحماية الحكم من الغضب المتوقع من ضحايا القمع. اما البحرين فلها قصة مختلفة تماما. فمنذ اكثر من مائة عام لم تتوقف الاحتجاجات المطالبة بمنظومة سياسية عصرية تضمن للمواطنين حقوقهم الطبيعية المشروعة. ونجم عن هذا التوتر شعور الحكومة بعدم القدرة على مواجهة التحدي الداخلي بمفردها. فاستدعت في العام 2011 قوات سعودية واماراتية لقمع ثورة شعبها التي انطلقت ضمن «الربيع العربي».
هذه العوامل مجتمعة توفر مادة لاستيعاب بعض دوافع حكومتي الإمارات والبحرين للتطبيع مع «إسرائيل». وكان بامكانهما عدم فعل ذلك لأنه انقلاب على الثوابت العربية والإسلامية، وهدية لبنيامين نتنياهو الذي يواصل عدوانه على الفلسطينيين والشعوب العربية المجاورة. فالبلدان ليسا بحاجة حقيقية للدعم الإسرائيلي، ولا يتوقع ان تنهال الاستثمارات الإسرائيلية على المنطقة، بل العكس هو الذي يحدث، ومن المتوقع ان تحصد «إسرائيل» فوائد اقتصادية وسياسية كثيرة على حساب الشعب الفلسطيني. لذلك اعتبر الشعبان الإماراتي والبحراني خطوة التطبيع «خيانة» وبذلك تهيّأت ظروف جديدة لحراكات جماهيرية جديدة يغذيها الغضب ازاء السياسات الرسمية القمعية تجاه المواطنين من جهة والخيانية تجاه الشعب الفلسطيني والاجماع العربي.
إنها واحدة من اللحظات التاريخية التي لن تمر بدون ان تترك آثارا خطيرة على الوضع العربي عموما، وقد تساهم في تفجير اوضاع المنطقة نظرا لتعمق الشعور بالاحباط والخيانة والاستسلام.
كاتب بحريني
المصدر: القدس العربی